رنيم الحب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رنيم الحب

نلتقي لنرتقي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

  خواطر سانحة في الأدب

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
المبرمج يوسف
مشرف عام
مشرف عام



المساهمات : 16
تاريخ التسجيل : 15/03/2011
العمر : 30
الموقع : vipj.wwooww.net

   خواطر سانحة في الأدب Empty
مُساهمةموضوع: خواطر سانحة في الأدب      خواطر سانحة في الأدب Icon_minitime1الأربعاء يوليو 06, 2011 12:33 pm


خواطر سانحة في الأدب


خواطر سانحة في الأدب
لا ينفك الفكر يعمل في اليقظة وفي المنام. وإذا لم يستحوذ عليه شأن، أو يشغله شاغل ابتدرته خواطر من جميع المستويات ومن شتى المصادر ومختلف المناسبات بيدَ أن هذه الخواطر تذهب أدراج الرياح إن لم يسجلها قلم أو يَضُمّها كتاب، هذا وإن في جمعها العفوي لتصيُّداً للشارد والتقاطاً للمفيد. على أن أكثرها من نوع التذكر والتداعي والموازنة والمشاكلة والتقّريب والتبعيد.

وربما كان أروح أصناف الكتابة ما صدر عن ذلك دون جهد ولا تكلف ولا مبالغة. ومن المستحبّ اليسر والسهولة في الكتابة، كما أن من المستكره التعقيد والتعمّل والإلحاف. وقد جاء في الأثر:

إن المُنبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. وقد جرى هذا القول مثلاً يضرب لمن يبالغ في طلب الشيء ويفرط حتى يفوّته على نفسه.

وقد رغبنا هنا في تسجيل بعض السوانح التي عنَّت لنا في أمور أدبية قرّبنا بينها على تباعدها، وقضايا لغوية وإملائية عربية تحرّينا صوابها. ولعلها تفيد المتأمل وتسعف الباحث.

1-آ- عبد الله بن محمد المعتز المشهور بابن المعتز (247هـ/861م - 296هـ/909م) خليفة يوم وليلة. وهو من أكابر الشعراء المبدعين الذين امتازوا بوصف الطبيعة وصفاً دقيقاً فيه غضارة الإحساس ورهافة الشعور ونقاء التعبير. كنت وما زلت من المولعين بأوصافه البارعة وتشبيهاته الممتعة.

أحفظ له منذ الصبا هذه الأبيات البديعة يصف فيها سحابة مطرت طوال الليل ثم انجلت في أخرياته فلاح لازورد السماء مع السحر كرياض البنفسج النديّة ونجومها بينها كأنوار الأقاحي المتفتحة:

وموقرةٍ بثقْل الماء جاءت
تهادى فوق أعناق الرياح

فجادت ليلها سحّاً وويْلاً
وهطلاً مثل أفواه الجراح

كأن سماءها لما تَجَلَّتْ
خلال نجومها عند الصباح

رياضُ بنفسج خَضِلٍ ثراه
تفتَّح بينه نورُ الأقاحي


على أني أريد أن أشير هنا إلى بيتين له بديعين أيضاً وطريفين يصف هلالاً جديداً يزيل ظلام الليل شيئاً فشيئاً، ويغمر نوره ثُللاً من الكواكب.

فكأنه منجل صيغ من لُجينٍ وهو يحصد تلك النجوم التي تحاكي أزهار النرجس:

انظر إلى حُسْنِ هلالٍ بدا
يهتك من أنواره الحندسا

كمنجل قد صيغ من فضة
يحصد من زهر الدجى نرجسا


ب - فكتور هوغو Victor Hugo (1802-1885) من أكبر الشعراء الفرنسيين وأوسعهم شهرة وأغزرهم مادة. وقد أولع بدراسة كل ما يتعلق بالمشرق قديمه وحديثه لعصره. قرأ ما يكتبه المستشرقون إذ كان الاستشراق في ريِّقه، واستمع إلى ما يتناقله السياح وما يترجمه الذين يعرفون اللغة العربية.

ومن أشهرهم سلفستري دي ساسي Sylvestre de Sacy وغرانجيري دي لاغرانج Grangeret de Lagrange ولا سيما Fouinet الذي كان يزوره ويزوّده بترجمات متنوعة أكثرها شعرية فاطلع على بعض أشعار ابن المعتز والمتنبي وابن الفارض مما كان يقرؤه مترجماً أو مما كان يُترجم له ويستمع إليه.

كذلك اطّلع على ترجمة Galland لرواية ألف ليلة وليلة وأعجب بما فيها من خيال وتصوير وغرائب. ولهذا كله نجد في أشعاره ورواياته تشابيه وصوراً وأوصافاً تشابه بعض ما جاء في التراث العربي. ولم يسافر هوغو إلى الشرق مع أنه زار إسبانيا وأعجب بالتراث العربي هناك. وقد اطلع فيما اطلع على كتاب العهد القديم، واتخذ من أخباره مادة لبعض أشعاره. من أجمل قصائده على الإطلاق قصيدة وردت في أحد دواوينه "سِيرَ العصور La Légende des Siécles" وهي بعنوان: "بوعز النائم: Booz endormi" يصف فيها ليلة صيفية من ليالي فلسطين البديعة كما يصف السيدة المؤابية راعوت التي ذهبت إلى حقل بوعز تلتقط السنابل وراء الحصادين ثم استلقت تنام إلى جانب بوعز إطاعة لحماتها كما جاء في سفر راعوت. ولكنها بقيت بين اليقظة والنوم، ترعى نجوم السماء وتتأمل جمالها مع الهلال الذي كان يشارف الغروب (كان في التربيع الأول) مثَلُه مَثلُ هلال ابن المعتز. يشبه هوغو في قصيدته الهلال الذي كانت تتأمله راعوت بمنجل ذهبي رماه دون انتباه حصاد صيفي في حقل النجوم. وَصْف الهلال بالذهبي ربما جاء من لا شعور الشاعر الذي تعاطف مع راعوت ومن جو حصاد سنابل الشعير الجانحة نحو الصفرة. وهذه ترجمة حرفية تقريباً للقطعة من تلك القصيدة مع إثبات أصل القطعة.

"كانت الكواكب ترصع السماء العميق المُعْتِم

والهلال اللطيف والوضيء بين أزهار العَتمةَ هذه

يتألق على الأُفق الغربي، وكانت راعوت تسأل في نفسها

مطمئنةً وهي تحت نقابها تفتح عينيها إلى النصف

أيُّ إلَه أم أيُّ حصّاد في الصيف الأزلي رمى دون اكتراث حين ذهب

هذا المنجل الذهبي في حقل النجوم".

“Les astres émaillaient le ciel profond et sombre;

Le croissant fin et clair parmi ces fleurs do I’ombre

Brillait à I’occident, et Ruth se demandait

Immobile, ouvrant I’oeil a moitié sous ses voiles,

Quel dieu, quel moissonneur de I’éternel été,

Avait, en s’en allant, négligemment jeté

Cette faucille d’or dans le champe des étoiles’.

(نذكر استطراداً هنا ما أخذه النقاد الفرنسيون على هوغو من كثرة استعمله القافيتين Ombre و Sombre كأنهما صنوان لا يفترقان في أشعاره).

2-آ- علي بن العباس المعروف بابن الرومي (221/836-283/896) من أشهر شعراء الدولة العباسية وأغزرهم مادة وأكثرهم تناولاً لمختلف الأوصاف إنسانية وطبيعية، وأبرعهم انتباهاً للطريف الممتع أو الكريه المقذع.

قال يصف مجلساً للأثرياء في بغداد تدير فيه الجواري الحسان أكواب الشراب على الحضور في قصيدة طويلة بلغ فيها منتهى البلاغة في وصف تلك الساقيات الجميلات اللواتي يشبهن في إنسيابهن ورقتهن ورشاقتهن سُفناً لطيفة تجري واحدة تلو أخرى فوق مياه صافية عذبة: أكاد لا أملّ من قراءة هذه الأبيات الشائقة المغرية التي ينكر الشاعر في نهايتها على أولئك الذين جلسوا أمثال ذلك المجلس ويندد بهم:

درّ صهباء قد حكى درَّ بيضا
ء عروبٍ كدمية المحراب

تحمل الكأس والحُليَّ فتبدو
فتنة الناظرين والشُرّاب

يا لها ساقياً تدير يداه
مستطاباً يُنال من مستطاب

لذة الطعم في يديْ لذة المللـ
ثم تدعو الهوى دعاء مجاب

حولها من نجارها عيِنُ رملٍ
ليس ينفكّ صيدُها أُسْدَ غاب

يونق العينَ حُسنُ ما في أكفٍّ

ثَمَّ تَسقي وحُسْنُ ما في رقاب

ففمٌ شارب رحيقاً وطَرْفْ

شاربٌ ماءَ لَبّةٍ وسِخاب

ومزاج الشراب إن حاولوا المز

جَ رُضابٌ يا طيبَ ذاك الرضاب

من جوارٍ كأنهن جوار

يتسلسلن من مياه عذاب

لابسات من الشُّفوف لبوساً

كالهواء الرقيق أو كالسراب

ومن الجوهر المضيء سناه

شُعلاً يلتهبن أيَّ التهاب

فترى الماء ثَمَّ والنار والآ

ل بتلك الأبشار والأسلاب..


ب- بودلير Baudelaire (1821-1867) من أبرز الشعراء الفرنسيين إبداعاً وتأثيراً في تطور الشعر الفرنسي. ديوانه المشهور "أزهار الشر Les Fleurs du Mal" فيه قصيدة بديعة بعنوان "السفينة الجميلة “Le Beau Navire" يصف فيها فتاة رشيقة تشق السير بإيقاع عذب كما تشق السفينة عباب الماء. يقول فيها:

"حين تمضين دافعة للهواء بتنورتك الفضفاضة

تبدين كسفينة جميلة تُيَمِّمُ عُرْض البحر

مشحونة بالثياب (كالشراع) سهلة الانسياب

وَفْقَ إيقاع لذيذ ورخيّ ومتمهل."

“Quand tu vas balayant I’air de ta jupe large,

Tu fais I’effet d’un beau vaisseau qui prend le large,

Chargé de toile, et va roulant

Suivant un rhythme doux, et paresseux, et lent”

3- حين كتبت عن الفيلسوف الألماني الشهير إمانويل كنت Emmanuel Kant (1724- 1804) أشرت في تعريفاته للجمال وللروعة إلى النقائض الثماني التي يعتمدها في تلك التعريفات. كان يلجأ إلى تحديد نقيضة Antinomie في كل تعريف بحيث لا تنحلّ النقيضة إلا في مجال الحكم التأملي الفني. أضرب مثلاً على إحدى تلك النقائض. فهو يقول في أحد تعريفاته للجمال: إنه "موضوع غائية تُلْمح في الشيء الجميل دون تصوّر أية غاية" وتوضيح ذلك أننا ننعت الشيء بالجمال حين نظن له غاية على ألا نفكر في هذه الغاية تفكيراً جلياً ودقيقاً. ينظر المرء إلى زهرة مثلاً: فإن كان عالم نبات فكر في وظائف الكأس والتويج وأعضاء التكاثر ولم يشعر بجمال الزهرة، إذ كانت نظرته مشتملة على غاية واضحة ومعينة. وعلى العكس قد يحسب ناظر آخر أن وجود هذه الأجزاء مجرد اتفاق ومصادفة دون أي غاية أو وظيفة فيبتعد كذلك من الإحساس بالجمال.الحكم الفني يحدس بغاية دون إيضاحها وتعيينها، أي يتوسم غاية في التكوين دون بيانها.

هنالك نقائض أكثر تعقيداً في فلسفة كنت يقرؤها طالب الفلسفة قد يستسيغ بعضها ولا يستسيغ بعضاً آخر. الذي أريد أن أذكره هنا أن في الأدب العربي أمثلة تعين على فهم طبائع هذه النقائض. كنت في ندوة تناقش مشروع بحث في الماجستير لطالب يريد أن يتناول بعض بحوث الشيخ محيي الدين بن عربي. وقد أورد في مصادر البحث كتاباً للشيخ بعنوان مُصَحَّف هو "غفلة المستوفر". وهو كتاب أعرفه وهو عندي. وعنوانه الصحيح "عُقْلة المستوفر". فصححت العنوان وقلت أنه مأخوذ من قطعة شعرية لابن الرومي من أجمل ما جاء في وصف الحديث وهي:

وحديثها السحر الحلال لو أنّه

لم يَجْنِ قتل المسلم المتحرز

إن طال لم يُمْلَل وإن هي أوجزت

ودَّ المحدَّثُ أنها لم توجز

شَرَكُ العقول ونزهةٌ ما مثلها

للمطمئنّ وعقلة المستوفرْ


ثم تبيَّنت في هذه الأبيات الثلاثة ست نقائض حسب تعبير الفيلسوف كنت لا تنحلّ إلا بتطبيقها على ذلك الحديث اللذيذ. وها أنذا أشرح هذه النقائض.

حديثها الشهي اللذيذ كالسحر
حلال (لأنه في الواقع ليس سحراً) حرام (لأنه يغوي المسلم الورع وإغواؤه مثل قتله)

إن طال (والإطالة مملة) لم يُمْلَلْ على رغم إطالته

إن أوجزت (والإيجاز مرغوب فيه مبدئياً) يود السامع أن تطيل لعذوبة حديثها.

العقول (حرة في تصوّراتها) ولكن تلك الحسناء بحديثها تقيّد حرية العقول وتستأسرها وتستأثر بها.

النزهة خروج من البيت إلى الرياض لا حاجة للمطمئن في مجلسه معها أن يخرج إلى الرياض لأنها هي رياض.

المرء إذا هم بالقيام استوفز ثم انصرف إلى طيّته لكن إذا سمعها المستوفز تتحدث تّلَبَّثَ وبقي بين القعود والقيام.

هذه المفارقات أو النقائض على حد تعبير الفيلسوف كَنْت لا تجد لها حلولاً على حسب تصور ابن الرومي إلا في ذلك الحديث العذب حديث حسنائه.

فتعريف ذلك الحديث الحسي يعتمد تلك النقائض الستّ. إنما عمدنا إلى شرح أبيات ابن الرومي الثلاثة لغرضين اثنين: أولهما إعانة طالب الفلسفة على فهم ما يريده كنت من النقائض في بحوثه الفلسفية ولا سيما الجمالية بأمثلة من الشعر. وثانيهما الإشادة ببعض ملامح الشعر العربي التليد.

4- الحب أمره عجيب. للإمام أبي القاسم القشيري (376هـ/ 986-465هـ/1073م) كتاب بعنوان "لطائف الإشارات" وهو من كتب التفسير الإشارية. نجد فيه هذا البيت اللطيف وارداً على سبيل الاستشهاد:

وأحِبها وأحب منزلها الذي

نزلت به وأحب أهل المنزل


فالحب كالنور يضيء ما حوله ويجعله محبوباً، أو كالماء العذب يفيض على جوانبه فيمس الأحياء ويبلغ حتى الجماد. فإذا غاب الحبيب أو حَالت الصروف بينه وبين المحب تجهمت الحياة وأظلمت وغدت الدنيا مع ما فيها من خضرة ونبات بلقعاً يباباً وصحراء خالية.

آ- قيس بن ذريح (؟ - 70هـ/690م) شاعر من أشهر العشاق العذريين. ذاع صيته بحبه لبنى واقترن اسمه بها. فهو قيس لبنى. وأشعاره فيها تفيض هياماً ووجداً وتبريحاً وصبابة. له قصيدة طويلة مشهورة تداولتها كتب الأدب، منها هذا البيت:

كأن بلاد الله ما لم تكن بها

وإن كان فيها الناس قفر بلاقع


ب- لامرتين Lamartine (1790-1869) من أبرز شعراء فرنسة وأكثرهم عشيقات، وأعذبهم شعراً رومانسياً، وأشدهم مع ذلك شجناً وشجواً. ماتت السيدة إِلْفير حبيبته في كانون الأول 1817 فأمرض هذا الحدث الشاعر واعتزل الناس في قرية ميلّي Milly مسقط رأسه بمقاطعة ماكون màcon، وحسب أنه لن يبقى بعد وفاتها إلا قليلاً. ثم كتب قصيدته المشهورة "العزلة isolemen’L" في آب 1818 تطفح بأشجان رومنسية. منها هذان البيتان (27، 28) وترجمتهما:

أيتها الأنهار والصخور والغابات والخلوات الأثيرة (لديّ) جداً

يعوزكنّ (وجود) شخص واحد

أما الآن فكلكنّ بلقع لا أنيس فيه


ثم يعود فيقول: (البيت 34).

سترى عيناي في كل مكان

الفراغ والصحارى


“Fleuces, rochers, foréts, solitude si chéres,

Un seul étre vous manque, et tout est dépeuplé!

…………………………………………………

Mes yeux verraient partout le vide et les deserts”

5- في قصيدة قيس بن ذريح التي أشرت إليها آنفاً بيت كثيراً ما يتداوله الأدباء وهو:

نهاري نهار الناس حتى إذا بدا

لي الليل هزتني إليك المضاجع


ويروى إذا دنا، وإذا دجا.

وكتب الأدب إذا أوردت هذا البيت أثبتت دائماً هزتني. والصحيح هرتني بالراء المهملة كما أثبت الزمخشري هذا اللفظ بالبيت نفسه في مادة "هرّ" من معجمه "أساس البلاغة". وجار الله هوما هو علماً وتحقيقاً. ومعنى هرتني كرهتني وكرهتها عند التفكير فيك فبقيت ساهداً بلا نوم. هذا ولفظ هزتني أقرب إلى القارئ من لفظ هرتني المجازي. ولذلك تلقّفه الكتاب، كما تشير طبيعة التلّقي والإدراك في نظرية "الغشتلت" النفسية.

6- مثل هذا التصحيف وقع في بيت البحتري (206هـ/821م-284هـ/897م):

غرّني حبُّه فأصبحت أبدي

منه بعضاً وأكتم الناس بعضا


والصحيح: عزّني حبه.. أي غلبني فلم أستطع كتمانه فأصبحت أبوح ببعض منه وأكتم بعضاً آخر. جاء في القرآن الكريم: "وعزّني في الخطاب" (سورة ص الآية 23). وجاء في كلام العرب: من عزّ بزّ أي من غلب سلب.

إن تاريخ الشعر العربي يفسر بعضه بعضاً. وفكرة كتمان الحب فيه أو البوح به فكرة متداولة. ذلك أن كتمان السرّ وعدم البوح به عادة من عادات الحب العذري صوناً للحبيب أن تمسّه الأراجيف، أو لأن الحب بلغ من القوة مبلغاً لا يناله البيان، ووصل من السمو درجة تجلّ عن الإعلان. يقول أحد الشعراء:

صددنا كأنّا لا مودّة بيننا

على أن طرف العين لا بدّ فاضح

ومدّ إلينا الكاشحون عيونهم

فلم يَبْدُ منا ما حوته الجوانح

وصافحت من لاقيت في البيت غيرها

وكل الهوى مني لمن لا أُصافح


ولكن جريراً الخطفي (28هـ/ 648م - 110هـ/ 728م) شعر بعبء الحب وقلة قدرته على حمل كتمانه:

لقد كتمت الهوى حتى تهيّمني

لا أستطيع لهذا الحبّ كتمانا


وقد تأثر أبو عبادة الوليد ببيت جرير هذا في بيته الذي أبنا تصحيفه على الوجه السالف.

هذا وقد جرى الصوفية على طريقة كتمان الحب وعدم البوح به. ولا بأس في بعض الاستطراد المناسب. يقول أبو الفتوح السهروردي (549هـ/ 1154م - 587هـ/ 1191م) في قصيدته المشهورة هذه الأبيات:

وارحمتا للعاشقين تكلّفوا

ستر المحبة والهوى فضاح

بالسر إن باحو تباح دماؤهم

وكذا دماء العاشقين تباح

وإذا هُمُ كتموا تحدّث عنهمُ

عند الوشاة المدمع السفّاح

وبدت شواهد للسقام عليهمُ

فيها لمشكل أمرهم إيضاح


وفي الختام نودّ أن نورد رأي ابن عربي (560هـ/ 1165م – 638هـ/1240م) في كتمان الحب أو البوح به. فهو يرى في كتاب "الحُجُب": "أن كتمان المحبة حجاب. فإنه دليل على عدم استحكام سلطانها. بل لا يصح كتمان المحبة أصلاً فإن سلطان المحبة أقوى من كل سلطان." ويستشهد على ذلك بقول الخليفة هارون الرشيد:

مَلّكَ الثلاث الآنساتُ عناني

وحللن من قلبي بكل مكان

مالي تطاوعني البريّة كلُّها

وأطيعهنّ وهنّ في عصياني

ما ذاك إلا أن سلطان الهوى

وبه قويِن أعزّ من سلطاني


وينبّه الصوفي الفيلسوف على أنه" لا يصح كتمان المحبّة، فإن لسانها لسان حال، ليس لسان مقال، كما قيل:

من كان يزعم أن سيكتمُ حبّه

حتى يشكك فيه فهو كذوب

الحبُّ أغلب للفؤاد بقهره

من أن يرى للستر فيه نصيب

وإذا بدا سرّ اللبيب فإنه

لم يَبْدُ إلا والفتى مغلوب

إنّي لأحسد ذا الهوى متحفظاً

لم تتهمه أعين وقلوب


وأما الكتمان المذكور عند أصحابنا فهو لا ينطق باسم محبوبه لإنسان واحد. وإليه أشار القائل حيث قال:

باح مجنون عامرٍ بهواه

وكتمت الهوى قمتُ بوجدي

فإذا كان في القيامة نودي

مَنْ قتيل الهوى تقدمت وحدي"


ويلخص الكاتب الصوفي الكبير هذا الأمر فيقول: "والجامع لباب الكتمان أن صاحبه ذو عقل ونظر. فهذا ناقص عن درجة الحب كما قيل:

ولا خير في حبٍّ يُدَ بَّر بالعقل

وقال آخر: الحب مالك النفوس من العقول والكتمان حجابه."

7- راجت شهرة بعض المحققين في عالم التحقيق. وربما كانوا يستحقون تلك الشهرة. ومع ذلك نعجب من ذهولهم عن بعض الألفاظ المحرفة أو المصحّفة وهي ظاهرة التصحيف والتحريف. من أشهرهم عبد السلام محمد هارون الذي حقق ونشر كتاب "الحيوان" للجاحظ نجده في الصفحة 151 من الجزء السابع يثبت شعراً لرجل من قريع يرثي عينه ويذكر طبيباً:

لقد طفت شرقي البلاد وغربها

فأعيا عليّ الطب والمتطبب

يقولون إسماعيل نقاب أعين

وما خير عين بعد ثقب بمثقب


إلى آخر الأبيات الخمسة. ويظهر الإقواء في البيت الأول. ونرى أن الأصل

فأعيا عليّ الطبّ للمتطبب

كذلك أبقى تصحيف نقّاب في الشطر الأول من البيت التالي، مع أن الشطر الثاني يذكر الثقب والمثقب. فكان ينبغي للمحقق أن يثبت الشطر على الوجه الآتي:

يقولون إسماعيل ثقاب أعين..

وهذا البيت يظهر معالجة العرب القدماء للعين التي أصابها الزَّرَق. وأطباء العرب أطلقوا على الثقب لفظ القدح أي إخراج الماء الفاسد - على حد تعبيرهم - من العين. والبيت الثالث:

يقولون ماءٌ طيّبٌ خان عينه

وما ماء عين خان عيناً بطيّب


وبمناسبة الكلام على عبد السلام محمد هارون جاء في الجزء الخامس من "الحيوان" (ص 112-113): قول أحد علماء الكلام في النفس: "بل أزعم أن النفس من جنس النسيم. وهذه النفس القائمة في الهواء المحصور عَرَضٌ لهذه النفس المتفرقة في أجرام جميع الحيوان. وهذه الأجزاء التي في الأبدان هي من النسيم في موضع الشعاع والأكثاف والفروع التي تكون من الأصول." وغاب عن المحقق أصل التحريف في الأكثاف وهو الأكساف أي القطع من الشيء. وهي أيضاً الكسوف جمع لِكَسفٍ وكِسْفٍ. وهذان جمعان لِكسْفَةٍ أي قطعة من الشيء. وقد ورد الْكِسْفُ مرَّةً واحدة في القرآن الكريم في سورة الطور وورد الكِسَفُ أربع مرات في سورة الإسراء والشعراء والروم وسبأ. وهذا التفصيل لبيان أن الأصل كـ س ف ليس حوشياً ولا غريباً. وقد كتبنا مرة مقالاً مطوّلاً عن الأخطاء التي يقع فيها المحققون المشاهير في مجلة الموقف الأدبي السورية.

8- الموسيقى لفظ دخل اللغات الأوربية من اللغة اللاتينية Musica وقد ورثته عن اللغة اليونانية Musiké. ومعناه فن الموزات أي ربّات الفنون كما يتصورهن اليونان في أخيلتهم. وهي تسع شقيقات يحمين الفنون والعلوم ويرعينها. وهنّ: أوتيرب Euterpe ربة الموسيقى، وأورانيا Urania، ربة علم الفلك، وإيرتو Erato ربة الشعر الغنائي، وبوليهمنيا Polyhymnia ربة الإنشاد المقدس، وتيربسيكور Terpsichore، ربة الرقص، وتاليا Thalia ربة الملهاة، وكليو Clio ربة التاريخ، وكليوب Calliope ربة البلاغة والشعر البطولي، وملبومين Melpomene ربة المأساة.

ويبدو من هذا العرض أن لفظ الموسيقى استأثر في اشتقاقه بالربّات كلها. وقد أهمل العرب خرافات اليونان واستعملوا اللفظ للدلالة على فن صناعة الألحان، وكتبوه بالياء المقصورة، كما جاء في كتاب مفاتيح العلوم للخوارزمي المتوفى عام 387هـ. قصر المؤلف عليه الباب السابع من المقالة الثانية في كتابه.

وورد اللفظ في كتاب "الإشارات" لابن سينا المتوفى عام 428هـ.

وورد في كتاب "رسائل إخوان الصفا" حيث خصصت الرسالة الخامسة بصناعة الموسيقى. وكان الأب أنستاس ماري الكرملي يصرّ في مجلته "لغة العرب" على ضبط لفظ الموسيقى بكسر القاف. وربما كان انتبه لأصله اليوناني كما كتبناه بالحروف اللاتينية آنفاً.

هذا وقد جاء اللفظ في قصيدة لأبي فرج الأصبهاني المتوفى عام 356هـ يرثي فيها ديكاً له يقال إنها من أجود ما قيل في رثاء الحيوان. وهي طويلة أثبت المحققون لكتاب "الأغاني" القسم الأكبر منها في تصديرهم للكتاب جاء فيها:

وكان سالفتيك تِبْرٌ سائل

وعلى المفارق منك تاج عقيق

وكان مجرى الصوت منك إذا نَبَتْ

وجَفّتْ عن الأسماع بُحُّ حلوق

نايٌ دقيق ناعم قُرِنَتْ به

نغمٌ مؤلَّفةٌ من الموسيقي


فأتى لفظ الموسيقى بكسر القاف بعدها ياء.

ويكون ذلك ناشئاً من أن اللفظ إما دخل العربية مباشرة من اليونانية أو على طريق السُّريانية وهو رأينا وإما هي إمالة محض.

وهذا كله يجعلنا نكتب ألف الموسيقى في آخر اللفظ بصورة الياء لا كما شاع في الوقت الحاضر بصورة الألف مخالفاً ما ورد وذاع في التراث.

لقد عُرِّبَ اللفظ منذ القديم. وبسبب التعريب رسم آخره بصورة الياء على فرض أن آخر اللفظ ألف، إذ الألف في المقصور ترسم بصورة الياء إن كانت رابعة فصاعداً.

وربما كان الخطأ المرتكب في الكتابة بصورة الألف في الوقت الحاضر ناشئاً من أن بعض المتأدبين سمع دون تحقيق أن الألفاظ الأجنبية تكتب أواخرها بالألف عامة إشارة إلى أنها أجنبية.





الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
خواطر سانحة في الأدب
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رنيم الحب :: القسم الادبي :: القصص القصيرة-
انتقل الى: