رنيم الحب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

رنيم الحب

نلتقي لنرتقي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 بلاغة الكتابة المشهدية.نحو رؤية جديدة للبلاغة العربية ـــ د.حبيب مونسي(1)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
المبرمج يوسف
مشرف عام
مشرف عام



المساهمات : 16
تاريخ التسجيل : 15/03/2011
العمر : 30
الموقع : vipj.wwooww.net

بلاغة الكتابة المشهدية.نحو رؤية جديدة للبلاغة العربية ـــ د.حبيب مونسي(1)  Empty
مُساهمةموضوع: بلاغة الكتابة المشهدية.نحو رؤية جديدة للبلاغة العربية ـــ د.حبيب مونسي(1)    بلاغة الكتابة المشهدية.نحو رؤية جديدة للبلاغة العربية ـــ د.حبيب مونسي(1)  Icon_minitime1الأربعاء يوليو 06, 2011 12:36 pm

بلاغة الكتابة المشهدية.نحو رؤية جديدة للبلاغة العربية ـــ د.حبيب مونسي(1)


بلاغة الكتابة المشهدية.نحو رؤية جديدة للبلاغة العربية ـــ د.حبيب مونسي(1)
1- تقديم :‏

ليس القصد من وراء عقد هذا الفصل، إعادة الحديث عن البلاغة العربية، وبيان دورها في تجميل الكتابة الإنشائية نثراً وشعراً، فذلك أمر لـه مجالاته الخاصة والمتخصصة، ولـه رجالاته ومكتبته. ولكن الحديث عن بلاغة الكتابة المشهدية، حديث ينصرف إلى العملية الإبداعية في تعاطيها عناصر البلاغة العربية من تشبيه، واستعارة، وكناية، ومحسنات، وأساليب.. هي أدخل في الصنيع الفني من كونها مجرد أدوات ملحقة يلتفت إليها المبدع لتحلية الصنيع الفني. إنها في اعتقادنا مثل اللون في يد الرسام، وعين الصوت في يد الموسيقي، لا يقدر على شيء إن هو تحاشاها. فهي ألوط بالعملية في أطوارها المختلفة: حضانة، وتحويلاً، وإنجازاً.‏

إنه زعم يجعل التشبيه والاستعارة والكناية، ناشئة في صلب الاختمار الفني الذي يحدث في الغياب، وكأن الذات –وهي تفكر في هاجسها –تُشبّه، وتستعير وتكنِّي.. أي هي عمليات أصلية في التنشئة الإبداعية، وليست طارئة عليها بعد الفراغ من التحويل والإنجاز. لقد نشأ وهم التابعية فيها، من الدرس البلاغي المدرسي الذي يتوقف في البيت الشعري، والسطر النثري، عند العناصر البلاغية وحدها، وكأنها عناصر مستقلة، يمكن استخراجها من الصنيع الفني دون أن يفقد توازنه. ومن ثم كان الوهم الذي تولاّها، ينظر فيها نظرة العامل المكمِّل، الذي يأتي نهاية الأمر ليضيف إهاباً من الجمال على الصورة المختارة، أو يذهب بها في وجه الشبه ليزيدها سعة ودلالة. غير أن المتفحص للتركيب الشعري والأسلوب النثري في كليته والتحام أجزائه، سريعاً ما يتراجع عن ذلك الوهم، مدركاً أنه أمام بناء واحد تتعدد فيه الألوان وتتسع بفضل كافة العناصر القائمة فيه. فلا فضل للفظ على آخر، ولا مزية لأسلوب على غيره، بل الفضل والمزية جميعاً للبناء المحكم المتماسك. فإذا نحن قرأنا مثلاً بيت "امرئ القيس"‏

وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي‏

وحاولنا عزل العناصر البلاغية، وفق الفهم القديم، لم يبق لنا في البيت إلا الليل، والهموم، والابتلاء. صحيح أنها بؤر التوتر في البيت الشعري، بيد أنها ليست كذلك في ذات الشاعر. بل إن حضور البحر في أعماقه ومخاوفه –وهو ابن الصحراء –يطلُّ علينا من أعماق، ربما ارتدت إلى خواطر أسطورية، تغذِّيها حكايات الغرق والهلاك. وقد كان في مقدور الشاعر أن يشبه الليل بالصحراء –بحره المألوف –ولكن حديث النفس في مخاوفها يتجاوز المألوف إلى المخوف، ويبتعد عن الداجن إلى الوحشي.‏

فالتشبيه الذي قرن بين الليل والموج العالي المُرغي المُزبد، يحتفظ بعاملي الارتفاع والاشتمال، ليمكِّن للاستعارة من بعده أن تفعل فعلها حين تقرن الليل مرة أخرى بالخيمة العظيمة المسدلة الستائر. هذا التراكب بين التشبيه المفضي إلى الاستعارة، لا يعضِّده في البناء المشهدي سوى التحويل الذي يحوِّل الستائر إلى هموم مسدلة سوداء مظلمة. فحركة النفس في هذا الموقف لا تشعر بالهموم الليلية على الصورة السطحية التي يشعر بها العامة من الناس، ولكنها تغترف من مخاوف الشاعر المطمورة ظلالها وأثقالها، فتصعد إلى حدسه الفني موجاً متلاحقاً مرتفعاً يغرفه، وخيمة عظيمة تشتمل عليه فتسدل ستائرها. وهو امتداد آخر يمكِّن الهاجس المستوحش من ملامسة صورة الجمل الهائج الذي يسحق صاحبه تحت كلكله.‏

وإذا نحن تأملنا المشهد ألفينا فيه حركة متسارعة تحاكي تدافع النفس في صدر المرعوب، لا يفسرها سوى تلاحق التشبيه والاستعارات في بيتين. وهو حيز ضيق لحشد هذا الكم الهائل من الصور التي لا تأتي مكتملة الأجزاء والحدود، بل يكفي فيها أن تسكت عن كثير من عناصرها، يجد لها التلقي في المجال التأملي ما يوسع ألوانها وظلالها. وإذا عدنا إلى الدفق الحياتي الذي أطر المشهد الفني، ألفينا أن الدفق يستغرق الليل كلّه:‏

فقلت لـه لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل‏

إن في الليل استطالة وتمدداً، تعمرهما الهواجس التي تتوزع النفس شعاعاً، تذهب بها في متاهات الظنون والأوهام، وتسرح بها المخاوف في الفجاج والمفاوز، ويتخطفها القلق من كل جانب، وليل الخائف لا بداية له ولا نهاية، وكأن حركته "شدت بأمراس" تعطل دورن الفلك. كل ذلك يحتويه المشهد الفني دفعة واحدة وفي حيز ضيق حرج، وليس أمام التعبير من حيلة لاحتوائه سوى اللجوء إلى بلاغة الكتابة المشهدية، يفرغ فيها إشاراته ورموزه، تتزاحم بالمناكب لتتسع أمام القراءة التي تتخطى خطية الحضور إلى الغياب.‏

لقد فطن "سيد قطب" –مبكراً –إلى هذا الضرب من الاقتصاد الذي يمكِّن المتلقي من المشاركة البناءة في استثمار الفراغ الباني في الصياغة الشعرية، التي كثيراً ما تفسد عليها اكتنازها الدلالي ثرثرةُ الشاعر التي لا تعرف أين يتوجب عليها الصمت. فقد أورد مثالاً من شعر "عمر بن أبي ربيعة" في غزلياته حين يقول:‏

إن خير النساء عنديَ طراً من تواتي بوصلها ما هوينا‏

فاذكري العهد والمواثيق منا يوم آليت لا تطيعين فينا‏

فيعلق قائلاً: "فإن "آليت لا تطيعين فينا" بهذا الغموض الذي أنتجه حذف المفعول، فيها من الروعة ما فيها. ولكنه أفسد علينا هذه الروعة المبهمة، فقال بعد ذلك:‏

قول واش أتاك عنا بصرم أو نصيح يريد أن تقطعينا‏

وقد كنا في غنى عن ذكر المفعول، الذي لم يأت بشيء جديد من عنده، فقد فهمنا من "يوم آليت لا تطيعين فينا" أنها لن تطيع "قول واش ولا نصيح" وأحسَسْنا ما هو أكبر من ذلك، وهو أنها مستعدة أن تسمع مجرد استماع لمن يحدثها فيه." (2)وهي إشارة مبكرة لعامل المشاركة التي يتوجب على المتلقي إبداؤها إزاء الصمت الذي كثيراً ما يعمر أرجاء القصيدة، شأن الصمت في العزف الموسيقي، والمسح اللوني الذي يتخطى المساحات في اللوحة.‏

أما في مثال امرئ القيس فالعامل البلاغي يقوم بوظيفة جديدة، غير الوظيفة التجميلية التي أناطها به الدرس المدرسي. إنها تمكِّن التعبير من الاتساع –عبر التشبيه والاستعارة –إلى مكوِّنات الدفق الحياتي وانعكاساتها في صفحة الذات. إذ الحياة جارية لا تأبه به وحده، وإنما في كرها تفرغ عليه من دواعيها ما يطوِّح به بعيداً في عالم المخاوف والمحاذير. هو قسط إن أضفناه إلى أعباء الحياة نفسها تعاظم أمرها، وصار من المستحيل تسجيله في كليته. من هنا يأتي دور العامل البلاغي بما يتوفر فيه من إمكانات ليمدد الصياغة –عبر القول والصمت –إلى حدود يكون معها دور المتلقي حيوياً في تلمُّس الأبعاد الخفية للمستور. شريطة أن لا تشوش ثرثرة الشاعر عليها باستدراك يبدِّد طاقتها، ويفسد عليها الغموض المحبب.‏

2-جماليات التشبيه:‏

قال عنه علماء البلاغة إنه أشرف أنواع البلاغة وأعلاها، يدل على فطنة الشاعر ويقظته العقلية، وأنه أصعب أنواع الشعر وأبعدها متعاطى، وقلما أكثر منه أحد إلا عثر، ذلك ما دَفع بـ "ذي الرمة" إلى القول: "إذا قلت كأن، فلم أجد وأحسن، فقطع الله لساني"(3). وهو التفات يجد في كتب النقد والبلاغة الكثير من الشواهد التي تعزِّزه، وترفع من شأن التشبيه. بيد أنها توحي من طرف خفي، وكأن العملية التشبيهية تقع دائماً بمعزل عن العملية الإبداعية، أو هي ملحقة بها. فقول "ذي الرمة" السابق يجعل الأداة "كأن" حاجزاً بين الشعر والتشبيه. فهي تضمر أن ما قبلها أصل، وأن ما بعدها إنما يؤتى به للتجويد فقط.‏

ومن يراقب أقوال أهل البلاغة في التشبيه يجد الفكرة جلية واضحة فيما يقدمون. وربما يكون من السهل علينا عرضها استناداً إلى ما جمعه "مجيد عبد الحميد ناجي" في بحثه عن "الأسس النفسية للبلاغة العربية" تسهيلاً لضرورة العودة إلى المصادر الأولى، فيكون لنا من أقوالهم هذه المتوالية:‏

-التشبيه عملية مقارنة بين طرفين –مشبه ومشبه به –لعلاقة تجمع بينهما. (ابن الأثير)‏

-ولما كان كذلك فلا بد له حينئذ من أداة تربط بين طرفيه، وإن حذفت أحياناً للمبالغة في اقتراب طرفي التشبيه من بعضهما، ومحاولة إبهام المتلقي أن المشبه هو المشبه به. (أبو هلال العسكري)‏

-نظروا إليه على أنه نوع من النيابة وقيام أحد طرفيه مقام الآخر. (الجاحظ. الرماني. العسكري. السيوطي.)‏

-أنه يقع تارة بالصورة والصفة، وأخرى بالحال والطريقة. (القاضي الجرجاني) (4)ومن بحث "جابر عصفور" في "الصورة الفنية" كذلك:‏

-هو محض مقارنة بين طرفين متمايزين لاشتراك بينهما في الصفة نفسها، أو في مقتضى وحكم لها. (عبد القاهر الجرجاني)‏

-يُنظر إليه على أنه نوع من "العقد" على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في حس أو عقل. (الرماني)‏

-أو نوع من "الوصف" بأن ينوب أحد الموصوفين مناب الآخر. (العسكري)‏

-أو نوع من "الإثبات" أن تثبت لهذا معنى من معاني ذاك، أو حكماً من أحكامه. (عبد القاهر الجرجاني).‏

-التشبيه هو إخبار بوجود الشبه. (التنوخي).‏

-التشبيه واقع أبداً على الأعراض دون الجواهر. (ابن رشيق)‏

-أن اقتران طرفيه معاً إنما هو أمر يعتمد على المسامحة والاصطلاح، لا على الحقيقة. (ابن رشيق)‏

-أنه يفيد الغيرية، ولا يفيد العينية. (ابن سنان الخفاجي)‏

-أو على سبيل الإيهام والمبالغة. (عبد القاهر الجرجاني) (5)‏

لا أحد ينكر أن البلاغة العربية بمباحثها المختلفة، إنما نشأت في جو الجدل والكلام، وأنها لم تكن في معزل عن التيار الاعتزالي الذي قنّن مبادئها، وأسبغ عليها من تأثير العقل ما جعلها تجنح في كل رؤاها إلى التقنين العقلي الصارم، الذي أحدث فيها تقسيمات منطقية المنزع والتفسير معاً. وهذا واقع فكري عام، أملته ظروف حضارية خاصة. بيد أن التعامل مع التشبيه عند المحدثين، ظل على حاله يمتح مادته من المتقدمين، مسترفداً عين الرؤية التي أطرت المبحث من قبل. فإذا كان الأعرابي يتلقى التشبيه في الشعر تلقياً خالياً من الفكرة التي ألحقتها به المحدثون، فلم يكن يجد من ضرورة في إثبات الغيرية، والعقد، والوصف، والمبالغة،.. وغيرها مما استشفه المنطق العقلي من عمليات التشبيه، حين عزلها عن التوتر الشعري الذي استعملها.‏

إننا إذا أفلحنا في العودة إلى التلقي الفطري الذي تحدثنا عنه، لم نكد نلتفت إلى التشبيه على النحو الذي تقدره البلاغة الاعتزالية. بل قد ننفر من الأقاويل التي سجلناها حتى لو قدمت لنا فهماً عقلياً عن العملية التشبيهية. غير أننا في خضم العملية الإبداعية سريعاً ما نتجاوز المشبه والمشبه به، والعلاقة القائمة بينهما، إذ هي أمور لا تعنينا، وليس لنا من الوقت ما يسمح لنا بالتوقف طويلاً أمامها. لأننا مغمورون في دفق شعري له سرعته وتوتراته الخاصة، التي يفتح لنا فيها التشبيه مسارب ثانوية في الدلالة الشعرية. فلا نكاد نخرج من فيض حتى يغمرنا فيض آخر. ولا نستروح عند صورة حتى تغزونا صورة ثانية.. ذلك هو حال الأعرابي الذي لم يكن يجد شيئاً يسمى تشبيهاً، وآخر استعارة، وثالثاً كناية.. إنه ينتقل في هدهدة الدفق الشعري عبر الصور، وهي تتوالى على مسمعه، تنقل الريشة في مهب الريح، لا تسأل عن وجهته، ولا شدته.‏

ولسنا ندعو وراء ذلك، إلى التلقي الفطري الأولي، فتلك انتكاسة لا نريد لها أن تحل ساحتنا، ولكننا ندعو إلى تجاوز فهم أطرته النزعة العقلية، فجففت فيه منابع الحس والجمال، وأحالت جمالياته إلى ضرب من العمليات الرياضية الخالية من الإثارة والاستفزاز. وفي المقابل نريد أن نقدم للتشبيه فهما آخر يمكِّننا من استعادة صفاء الذات وطواعية تلقيها وتعاطفها، دون أن تفقد معرفتها المتنوعة، فإذا التشبيه، والاستعارة، والكناية.. عمليات تقع في صلب العملية الإبداعية ذاتها، تدفعها الذات في الدفق الشعري حين يعترضها التعبير برؤى مستجدة، يكون من المحتّم عليها أن نستغرقها، إما عن طريق توازي التشبيه أو تداخل وتماهي الاستعارة، أو إشارة الكناية.‏

وإذا عدنا إلى المتوالية من الأقاويل التي سجلناها من قبل لنفحصها على ضوء ما نقرر من أمر التشبيه في العملية الإبداعية، وجدنا مفهوم "المقارنة" بين الطرفين عند "ابن الأثير" لا يفيدنا في شيء. ذلك أن الذي يُشَبِّه في الشعر، لا يريد أصلاً إجراء عملية مقارنة بين طرفين. فما تفيد المقارنة في أمر ينبع من أغوار الذات أخيلة، وأحاسيس، وعواطف. وما عساها تضيف إليه من جديد سوى أن يكون هذا هو ذاك، أو قريباً منه. وما أحسب أن الشاعر يُرهق نفسه من أجل هذا الأجر الزهيد فيما يسوق من تشبيه. بل القصد الموقوف على العملية التشبيهية، لا بد له أن يقع بعيداً عن المقارنة الشاخصة، التي تنتهي بسرد أوجه الشبه والاختلاف وحسب. ولن تحمل من حقيقة الأطراف المقارنة إلا مظاهرها، لا جواهرها.‏

أما محاولة "إيهام المتلقي" بأن المشبه هو المشبه به عند "العسكري" فمردودة هي الأخرى، مادام الشعر لا يقصد الإبهام ولا يطلبه. بل الشعر ضرب من المعرفة الخاصة التي لا تتأتى للعلم. وليس من قصدها أن يتوهم المتلقي إحلال شيء مكان آخر. وكأن العملية الشعرية كذب وتدليس ليس إلا. وأن ذلك لا يكون إلا مع محاولة إخفاء الأداة إمعاناً في ذلك التلفيق. إننا إزاء التشبيه لا نريد للمشبه به أن يحل محل المشبه في الصورة التي نختار، بل يجري اقتراب أحدهما من الآخر في ضرب من التمازج الذي يحققه الاستعارة. غير أنه في التشبيه يعرض على التعبير سبيلاً موازية يتدفق من خلالها التوتر لخلق مجالات تضطرب فيها الدلالة جديداً. فالمشبه به، وهو يقف المشبه، يسعفه على استرفاد طاقة جديد من التوتر يكون المشبه أحوج إلى من يساعده على حملها.‏

فالليل في شعر "امرئ القيس" لا يقوى على الانطلاق إلى ما يريده له الشاعر إلا من "الموج" الذي يمدُّه بالارتفاع مادياً، وبالخوف والهلاك معنوياً. إن حاجة المشبه إلى المشبه به، لا تجد مسوغها الإيهام، ولا في الغيرية.. بل في مقاسمة المشبه عبء الدلالة الطاغية التي تغزوه من أغوار النفس. ولو قلّبنا التشبيهات العربية لوجدنا في معنى التعاضد بين الطرفين ما يفسر لنا التشبيه، والاستعارة، والكناية، وغيرها من الأساليب البلاغية..‏

وإذا كان "الجاحظ" و"الرماني " "والعسكري" و"السيوطي" يجدون في التشبيه معنى "النيابة" فما جدوى أن ينوب "الموج" مناب "الليل" وما مقدار الفائدة المعنوية والدلالية التي تقدمها النيابة في هذا المقام؟ إن الفهم العقلي الذي يراقب العملية في حركتها الخارجية، لا يدرك سوى مظهرها الآلي الذي يمثل له عملية النيابة، وكأنه في مقدورنا أن نحذف المشبه لنضع مكانه المشبه به، ثم نستريح من عناء إبقائهما جنباً إلى جنب. إنها عين الفكرة التي يحملها إلينا "العقد" وكأنه اتفاق بين الطرفين من قبل أن نشرع في العملية التشبيهية، ليقوم أحدهما مقام الآخر. ولعمري ذلك فهم يبعدنا عن جماليات التشبيه، ويحيله إلى مجرد توافق بين طرفين في أن يأخذ أحدهما مكان الآخر في بضعة أبيات من القصيدة، ثم يعود الأصل إلى موضعه بعد استراحة وجيزة.‏

وأشد من ذلك أن يتجه العقل الاعتزالي ليجد في التشبيه "إثباتاً" لمعنى من المعاني، أو لحكم من الأحكام.‏

وكأن المراد القائم وراء التشبيه في كل ذلك أن "نثبت" فقط مواطن الالتقاء بينهما، على الرغم من تقرير الغيرية في كل ذلك. وإذا تساءلنا عن العملية الإبداعية، ومدى استفادتها من الإثبات وعدمه، لم نجد لذلك جواباً فيما يذهب إليه العقل التصنيفي الجامد. وليس من مرادنا فيما نسوق أن ننفي العقل من ساحة الفهم البلاغي، بل تلطيفاً لغلواء العقل في المضي وراء القرائن التي يمليها المنطق، دون الالتفات إلى طبيعة اللغة وآلياتها في إنتاج المعنى.‏

ربما يكون التشقيق العقلي لمباحث البلاغة العربية مفيداً في معرفة آليات سير عناصرها، شريطة أن لا يُعزَل ذلك الفهم عن المجال الذي يجد فيه حقيقته وأصالته. ومجال البلاغة هو القول، والقول يتفصّد عن الذات، والذات لا يحكمها منطق الأشياء الحسية حتى لو اعتدلت اعتدال القناة. إن للقول فتنته الخاصة كما يزعم "الجاحظ" في مستهل "البيان والتبيين" والفتنة فيه تأتيه من "البيان" وللبيان سحره الخاص. ويتعذّر على السحر أن يُساءل بمنطق العقل.‏

كان "الجاحظ" يدرك ذلك جلياً فيما يكتب ويختار، بيد أن التالين أمعنوا في التشقيق وإهمال العملية الإبداعية.‏

فلم يقدم لهم التشبيه سوى مظهر جافٍّ خالٍ من ماء الحياة. ولم يجدوا فيه –من فرط ارتباطهم بالحدود والتصنيفات –إلا الغيرية، والنيابة، وغيرها.. لأن موطن السر في الفنون جميعها: "أن يتكسر الحاجز الذي يبدو عصياً بين العقل والمادة، فيجعل الخارجي داخلياً، والداخلي خارجياً، ويجعل من الطبيعة فكراً، ويحيل الفكر إلى الطبيعية" (6) وليس يفلح أمام هذا التداخل الحاصل بين الحواجز والحدود، أن يكون فحص سر العملية الإبداعية قائماً على الشخوص العقلي وحده، متذرِّعاً بالتصنيفات المنطقية في التشقيق والتبويب، متوقِّفاً عند مظاهر الأشياء دون جواهرها. ذلك لأننا حين ندرك حقيقة الفن، نتهيب دخول حرمه من غير منطقه الخاص، الذي يعرفه كيف تتحرك الآليات المادية والمعنوية في فسحته.‏

كان "كروتشه" يقول: "إذا نحن استطعنا أن نسيطر على الكلمة الباطنية، أو أن ندرك صورة أو تمثالاً إدراكاً واضحاً جلياً، أو أن نكوِّن موضوعاً موسيقيا، فإن التعبير لا بد أن يجيء كاملاً. وذلك كل ما نريده. فلو انفتحت أفواهنا عن كلام، أو غناء، فكل ما نفعله حينئذ هو أن نفصح في العلن عما قلناه في السر قولاً باطنياً. وأن ننشد في صوت مسموع ما أنشدناه في دخيلة نفوسنا." (7)وتلك هي الواقعة التي تعطي لما نريده للتشبيه من التحام بالعملية الإبداعية، التحاماً يخلِّصه من شبح التابعية التي ألصقتها به المباحث البلاغية المقنَّنة. فالتشبيه وهو يصعد من أغوار النفس، ليس عنصراً مستقلاً يضاف إلى الإبداع، بل هو الإبداع يستكتب صوره في هذا الضرب من الصياغة فقط.‏

إن مراقبة التشبيه في الصنيع الشعري تقرّ بهذه الحقيقة إقراراً مباشراً، تتحسسه الذات المتلقية أثراً واحداً، لا أثرين منفصلين يأتي أحدهما أولاً، ويأتي الآخر تالياً. وفي بيت "مجنون ليلى" مصداق ذلك، حين يقول:‏

فأصبحت من ليلى الغداة كقابض على الماء خانته فروج الأصابع‏

فليس يخفى أن ليلى تخلف الوعد والعهد. وأن ذلك يقع في قلب العاشق موقعاً مؤلماً، يتعاظم مع تكرارها الخلف والتمادي فيه. ولسنا ندرك مقدار ذلك الوجع في قلبه لو راح يحدثنا عنه حديث الكم والكيف. إنها النقطة التي قلنا عنها إن المشبه يقف فيها منهكاً يحتاج إلى رافد يحمل عنه عبء الثقل الدلالي الذي يرومه.. إنه لن يستطيع أن يمضي بعيداً فيما يريد ولو حشد من التفسيرات ما حشد، بل ستكون محض ثرثرة لا تغني في شيء. عندها يكون التشبيه ضرورة شعرية يتدخل فيها الشعب لينشعب بالدلالة إلى وجهة أخرى تفتح أمام التلقي عالماً –حسياً كان أو معنوياً –تسلك الشحنة العاطفية شعابه من جديد، فتجد فيه من السعة ما يمكِّنها من الانتشار الدلالي، من غير أن تركب متن الثرثرة والحشو. فالتشبيه محو للحشو وإبطال للثرثرة المشينة من هذا الوجه.‏

إن التلقي إزاء مشهد "القابض على الماء" يجسد صورة عدم الجدوى من جهة، وصورة الرجاء الكاذب من جهة أخرى. وهي دلالات ذات أبعاد معنوية لا يمكن نقلها على هيئتها تلك، إلا من خلال مشهد الواقف على الماء يحاول المسك به، فيراه ينسرب بين فروج أنامله. إن الوعود في تلاشيها لا تختلف في شيء من الماء الجاري بين الأصابع. وليس تغنينا المقابلة بين الوعد والماء، ولا المشابهة بينهما، ولا المقايسة.. بل الذي يؤثر فينا هو المشهد الذي أفلح التشبيه في إقامته سنداً للدلالة الأولية في البؤرة الشعرية. فالصورة المأساوية للقابض على الماء، وهو يكرر المحاولة إثر المحاولة، تتمّ عن قلة حيلة وضيق حال، وصبر تتداعى جوانبه وتهترئ.‏

إننا حين نتحدث عن بلاغة للكتابة المشهدية –من خلال التشبيه من هذا المقام –نسعى إلى تقرير التشبيه انعطافاً خطيراً في الدلالة الشعرية، تأتي طاقته التشعيبية حين يقف المشبه على حافة العي والنضوب، يلتفت يمنة ويسرة، بحثاً عن مسعف يتولى مكانه حمل الثقل الذي تتعثر تحت ثقله الصياغة المباشرة. إننا نرى في العملية كيف توزِّع اللغة الشعرية أثقالها بين إمكاناتها المختلفة، وكيف يصبر الحمل الثقيل، بعد الانشعاب حملاً خفيفاً على اللسان ثقيلاً في الميزان.‏

3- الطاقة الاستعارية:‏

جرياً على هدي العقل التصنيفي يقسم "المرزوقي" الشعر إلى ثلاثة أقسام: "مثل سائر، وتشبيه نادر، واستعارة قريبة." (وكأن الصياغة التي اعتمدها الناقد ليست بريئة في ترتيبها للأولويات. فالشعر مثل سائر، تتعزز به وحدة البيت واستقلاله الدلالي، ليكون في محل المثل السائر الذي يمكِّن المتحدث من الاستشهاد به في المواطن التي يكون فيها في حاجة إلى رديف يصدقِّ قوله، ويعضِّد من رؤيته. ثم يأتي التشبيه النادر الذي يُستَملح في مبالغته ومماثلته، وأخيراً يشترط في الاستعارة أن تكون قريبة، غير مشتطّة البعد، غارقة في الغموض والإبهام.‏

إنه العقل الذي يجعل القصيدة الشعرية قسمة بين هذه الأطراف على حسب درجات تراتبها في القيمة. غير أن هذا الفهم الذي انتهى إلى "المرزوقي" لا بد وأن يجعل من العملية الإبداعية نشاطاً واعياً، شاخص العقل في التزام الدرجات والتوالي. ولن يجد للضرورة التي تحدثنا عنها من قبل مجالاً لنشاطها، لأنها لم تقبل النّسب، والرّتب، والتوالي. إنها تكوِّر كل ذلك في كوكبة واحدة، يمليها الدفق الشعري والتوترات التي تسكنه. من ثم يكون حضور المثل، إلى جانب التشبيه، والاستعارة، لا يخضع أبداً لمنطق التوالي والتراتب، بل تمليه الشحنات العاطفية التي تتدافع فيها المشاهد لتأثيث القصيدة دلالياً. ويتم فيها الاستنجاد بالتشبيه، أو المثل، أو الاستعارة، لنجدة الصياغة الشعرية، ومقاسمتها الحمل الدلالي الذي تنوء تحته.‏

لقد قال علماء البلاغة والنقد عن الاستعارة –مثلما قالوا عن التشبيه –أقوالاً، يحسن بنا أن نسجلها في متوالية، نقوم بفحصها على النحو الذي سلكناه مع التشبيه. فكانت:‏

-لا تتعدى الاستعارة كونها عملية نقل اللفظة من حيث الاستعمال من معنى إلى معنى آخر. (الجاحظ. ابن قتيبة. ثعلب. ابن المعتز. الآمدي. الرماني..)‏

-هي كل صورة تشبيهية لا يصلح دخول أداة التشبيه عليها بعد حذف أحد طرفيها. (عبد القاهر الجرجاني)‏

-تأتي الصورة الاستعارية للتعبير عن المدركات الحسية بمثلها، أو العقلية بمثلها؟ أو الحسية بالعقلية، والعقلية بالحسية. (الرماني)‏

-الصورة الاستعارية قائمة في أصل هو المستعار منه، وفرع هو المستعار له. ولكن يجب أن يكون الأصل أقوى تمكيناً في الصفات المراد إثباتها من المستعار له. (الشريف الرضي)‏

-من جملة ما تفيده الصورة الاستعارية توكيد المعنى والمبالغة فيه. (العسكري)‏

-يجب أن تتوفر على عنصر الملاءمة. (9)‏

إن تقديم التشبيه على الاستعارة في الفكر النقدي والبلاغي العربي يجد مسوغه في الإطار الفكري الذي كان يكتنف الفهم لأنماط القول وفنونه. وهو الفهم الذي يجد مصداقيته في الرؤية الاعتزالية المتّشحة بالمنطق الأرسطي الذي وجد فسحته في الكتابات المتأخرة،. وخاصة تلك التي أوقفت حسن الاستعارة على مبدأ "الملاءمة" واشتراط القرب.‏

وكأن الإيغال في الغموض مثلبة يجب على الشعر تحاشيها، فالحسن جلي في الوضوح، وقريب المآخذ. والقبح مجسّد في الغموض، وبُعْدُ الصلات بين المستعار والمستعار له.‏

إننا نجد لفظ "الاستعارة" ذلك النعت الذي يجعلها هي الأخرى مجرد "استعارة" فيها من التسوُّل ما فيها، حين تمتد إليه إلى الخارج تطلب عونه. وربما كان هذا الفهم هو أدعى إلى تقديم الاستعارة على هذا النحو من الفجاجة التي تقيم الحدود بين طرفين على الرغم من السعي وراء حذفها، أو على الأقل تمويهها. فإذا كانت الاستعارة لا تتعدى كونها "نقل" اللفظة من حيث الاستعمال من معنى إلى معنى آخر، فذلك عبث باللغة ودلالاتها، أو هو عي فيها.. لأننا في الاستعمال الاستعاري لا نقوم بنقل لفظة من مكان إلى مكان آخر، ولا نستعيرها لتأدية معنى جديدٍ وليست الاستعارة –بعد هذا –ذلك التشبيه الذي لا يصلح فيه وجود الأداة أو عدمها. إنها –فوق هذا وذاك –تعبير: "يقوم على درجة من درجات التقمص الوجداني، تمتد فيه مشاعر الشاعر إلى كائنات الحياة من حوله، فيلتحم بها، ويتأملها كما لو كانت هي ذاته، ويلغي الثنائية التقليدية بين الذات والموضوع." (10)فالاستعارة محو للحدود بين عناصر العالم وأصنافه، وامتداد للذات في الوجود حساً وعاطفة ووجوداً. إنها تمكّن الشاعر من إجراء عمليات تحويلية من قبيل السحر الذي يهدم أمام المشاهد طبيعة الأشياء، ويبطل في عقله قوانين المادة فيها. فهي بهذا الاقتدار لن تكون تشبيها، ولن تكون "استعارة" بالمعنى الذي يشيعه اللفظ من معنى أولي.‏

وحين نتأمل الاستعارة في خضم المشهد نستعظم فعلها، فيكون لنا منه اعتقاد غريب يوحي لنا بأن الشعر كلّه استعارة، بمعنى التقمص الوجداني والتماهي العاطفي، وفتح مجال الحياة من غير حد ولا حاجز. فتتراءى لنا التخوم القصية لأحلام الذات وامتداداتها. ولننظر إلى ذلك الشاعر الذي يسكنه هاجس الترحال وإلغاء المكان (11) كيف تذهب به الاستعارة مذهباً عجيباً:‏

تقول وقد درأتُ لها وَضِيني أهذا دينه أبداً وديني‏

أكل الدهر حل وارتحال أما يُبقي عليَّ ولا يقيني؟‏

إن هم الرحلة لا يسكنه وحده، بل يمتد منه إلى الناقة، فهي الأخرى تكابد ما يكابد. وكأنهما يشتركان فيه اشتراكاً يجعل الواحد منهما متعلقاً بالآخر تعلقاً لا يمكن أن يُفصل. والمشهد الذي تنسجه الاستعارة في هذا المقام، يقدم لنا الشاعر وهو يدرأ وضينه (الفراش الذي يوضع على ظهر الناقة) على الأرض تمهيداً لشدّه على ظهر الناقة. إنها الحركة الأولى في الرحلة، تنطلق منها المكابدة، وتخفي وراءها المشاق اللاحقة بها عياء، وعطشاً، وجوعاً.. هزالاً، وهلاكاً.. وحركة تقديم الرّحل للناقة، يسترفد معه داخلياً كل ذلك واحدة. ويجد له الشاعر في قرارة نفسه امتداده إلى الحيوان المنيخ أمامه. يسمع شكاته وتذمره.‏

إننا إذا قلنا إن حديث الناقة وشكواها، إنما قام على سبيل استعارة صفة من الإنسان وإلحاقها بالحيوان، أبطلنا الجمال الكامن في التماهي العاطفي الناشئ من صلب المشهد، وحولنا العملية إلى مجرد "ترف" زخرفي يمكن الاستغناء عنه. بيد أننا لو فتّشنا دخيلة الشاعر، وسبرنا أغوارها العميقة التي يمتد فيها هاجس الرحلة بعيداً في التاريخ، والأساطير العربية، لوجدنا أصوات الإنس تلتقي بأصوات الحيوان، وكأنها لغة واحدة ذات هم واحد. مادامت المكابدة واحدة. إن شكاة ناقة "المثقب العبدي" وفرس "عنترة" واحدة في أعماق الذات الشاعرة، لا تجد غضاضة في إخراجها على النحو الذي أخرجتها فيه. كما لا تجد الذات المتلقية نشازاً فيها تسمع. بل تعجب. وسبيل الاستعارة كامن في هذا العجب الذي يمكِّنها هي الأخرى، بل ويعلِّمها كيف ترهف السمع لامتداداتها الخاصة، وتماهيها الذاتي.‏

وإذا عدنا إلى الأصل والفرع، في شأن تقسيم أجزاء الاستعارة، فإننا أمام توحُّد الذاتين، لا نجد أين يبدأ الأصل وأين ينتهي، ولا أين يبدأ الفرع وأين ينتهي. فالحديث الذي سمعناه من الناقة والفرس، هو هو حديث الشاعر والفارس. وهو هو حديث الناقة والفرس. فليس أمامنا أصل وفرع، بل أمامنا هم واحد تجري مقاديره على ذات واحدة ممتدة بين الكائنات جميعها.‏

من ثم يكون لنا في الاستعارة ما يجده النقد الجمالي الحديث من كون الاستعارة ضرباً من الوعي الخاص بالذات، وإطلالة على حقيقتها. إذ ليس المعول فيها أن يسقط الشاعر: "مشاعره على ناقته، ويخلع عليها حزنه العميق من قدره فحسب، بل نحن أمام ذات تحاول أن تعي نفسها من خلال تأملها لموضوعها، وهو تأمل لا يحفظ للطرفين تمايزهما واستقلالهما، بل يداخل ويزاوج بينهما بطريقة تنتهي إلى تعديل كلا الطرفين على السواء." (12)بل يرتدّ الاستعمال الاستعاري: "على وجه العموم إلى الشعور الكامل بالحياة نفسها، وأول مظهر جمالي للاستعارة، استعادة الحياة توازنها، واستئناف الانسجام الداخلي بين المشاركين فيها." (13)وأغرب من ذلك أنها تعيدنا إلى الفهم الصحيح لعلاقات الوجود وكائناته. فما أصبحنا نعتقده من تمايز وتفرقة بين الموجودات، ليس مرده إلى ميْت وحي، وإنس وحيوان. بل إن طبيعة كل واحد منها لا تسلبها خاصية الإحساس والمشاعر. فقد ذكر الله –عز وجل –أن السماء والأرض تبكيان، وأن الجبال تخشى، وأن الكائنات جميعها تسبح، فالاستعارة، إذ تعيد استئناف الانسجام بين الكائنات تقدم وعياً أصيلاً بالحياة وللحياة.‏

وليس في الاستعارة معنى "المبالغة" إذا نظرنا إليها من هذه الزاوية. لأن المبالغة لن تفيد الشاعر في شيء، ولن تسعفه في تقرير حقيقة المشاعر التي تعتمل في صدره. بل قد تسد عليه المبالغة طبيعتها، وصدقها، وتذهب بكثير من الحسن فيها، فتجعل المشهد الاستعاري قائماً على التهويل المشين، والإدعاء الكاذب. إن الاستعارة وهي تسلك سبيل الانسجام تحقق للمشاعر صفاءها الفطري، وتفتح أمامها منافذ العطاء دون أن يعترضها منطق جاف، ولا حضور عقل شاخص. لأنها بمثل هذه المواصفات تمتلك عقلها ومنطقها الخاصين.‏

إن الاستعارة في الشعر الحديث تتجه إلى المنحى، حين تتسع لتجاوز البيت والسطر الشعريين، لتجعل من القصيدة –كلها –استعارة كبرى، ينفتح خطابها على التأويل الذي تتجاوز محمولاته الدلالية المباشرة التي تؤديها الألفاظ أصالة. ومنه يغدو تحديد الاستعارة على النحو الذي سلف في التقعيد القديم، ضيقاً لا يمكن له أن يتسع لها، مادمنا نعتبر الرؤية التي تقبع في أعماق الشاعر، تستعير شكلاً يناسب توتراتها الخاصة. فلا يكون المظهر الكلي للنص إلا ضرباً من الاستعارة التي يتخيرها المشهد للتمظهر الخطي أمام عين التلقي.‏

فإذا قرأنا –على سبيل المثال –قصيدة "عبد المعطي حجازي" أنا والمدينة" في ديوانه "مدينة بلا قلب" أدركنا مقدار الانزياح الذي تتخذه الاستعارة في إنجازها الخطاب الشعري المتوخى من مقول النص وصمته. يقول الشاعر:‏

هذا أنا،‏

وهذه مدينتي،‏

عند انتصاف الليلْ‏

رحابة الميدان، والجدران تل‏

تبين ثم تخفتي وراء تل‏

وريقة في الريح دارت، ثم حطت، ثم ضاعت في الدروبْ،‏

ظل يذوبْ‏

يمتد ظل‏

وعي مصباح فضولي مملْ‏

دست على شعاعه لما مررتْ‏

وجاش وجداني بمقطع حزين‏

بدأته، ثم سكتْ‏

-أنت يا.. من أنت؟‏

الحارس الغبي لا يعي حكايتي‏

لقد طردت اليوم‏

من غرفتي‏

وصرت ضائعاً بدون اسم‏

هذا أنا، وهذه مدينتي! (14)‏

لا يمكن للتحديد القديم للاستعارة أن يجد مبتدى الطرف الأول ولا منتهاه، ولا يعرف كيف يحاصر مسافة الطرف الثاني حين نعتبر النص في اتساعه استعارة واحدة. غير أننا قد نُقرِّب المسألة خطوة، حين نتمثل العملية على نحو يقوم فيه الدفق الشعري، وتوتراته بالبحث عن الشكل الأنسب لصبِّ التعبير فيه. من ثم يكون أمامنا اجتهاد الذات في تقصي أنواع التعبيرات التي تجسد خطابها الخاص. إذ ليس من المعقول أن يكون حديث الشعر في هذه القصيدة مجرد حديث عن الريفي الذي قصد المدينة، وذاق من غربتها وضياعها، حتى فقد الهوية والانتساب. وليس معقولاً أن يكون الوصف الذي أسراه لأزقتها ودروبها ليلاً، وصفاً واقعياً يقف عند جدرانها وإضاءتها. وليس معقولاً –بعد هذا كله –أن يكون القصد إخباراً بالطرد من الغرفة بعدما نفدت النقود ونفق الزاد.‏

إن النص ليقول هذا كله ويسكت عن بعض تفاصيله، ولكن حقيقة الشعر الحديث ليست في التقرير الاجتماعي لذات وسط المدينة. فإن كان هذا شأنها، فليست القصيدة الشعرية بأنسب قالب له. بل قد تضيق فسحتها عن تعداد همومه وأوجاعه. لذلك يشعر المتلقي حين يباشر النص أن وراء الأكمة ما وراءها. وأن هذا "الزي" المعروض، ليس إلا قناعاً مستعاراً، سريعاً ما تتبدد كثافته إن هو وجد من يزيل عنه الرّان السميك الذي يغلفه. هذا الفهم يدعونا إلى إعادة النظر في كون القصيدة الحديثة –مهما كان موضوعها، ومهما كانت غنائيتها –استعارة من نوع خاص. وسبيل الاستعارة أن تفتح الدلالة على مسارب متعددة فيها لغة الخطاب الشعري.‏

إننا حين نعاين المشهد المعروض علينا، وندرك فيه ما أشرنا إليه سابقاً، يدعونا المشهد إلى إجراء سلسلة من التحويلات الرمزية فيه لقلب المرآة حتى ترتسم على صفحتها صورة أخرى، لا تجد عناصرها المعنوية من تجسيد سوى الأقنعة التي اختارها الشاعر لرؤيته. ولنا –بعد التحويل –أن نقول مثلاً، أننا إزاء الشاعر ونفسه. "الأنا" "وهي /المدينة" فالأنا تشهد بالواقع المعطى، و"هي" تشهد بالرغبة والأمل. وبين الشاعر ونفسه من الصراع المرير الذي يتجاوز المادي إلى المعنوي، يتجاوز الواقع العيني إلى الانتماء الموزع بين الماضي الحاض. بين الحاثة والتراث.‏

قد نجد فيما نسوق بعض الشطط والابتعاد عن قصد الشاعر.. ذلك حق! ولكننا حين نعاين الاستعارة الكبرى في تردداتها، ندرك يقيناً أن ما نذهب إليه أمر واقع يحتاج إلى قليل من التأويل ليستقر على الرؤية التي تتفصّد من مقاصد النص ذاته. إن مدينة الشاعر ذات الميدان الرحب، والجدران التي تتمدد ظلالها وتذوب، والتي يرقبها مصباح فضولي ممل، يدوس الشاعر شعاعه، ثم تجيش نفسه بمقطع حزين، ثم يقطعه ويلوذ بالصمت.. كلها عناصر تُقَنِّع حقيقة النفس التي تجد في سعتها ما يمكِّنها من استغراق الوجود واحتوائه، غير أنها لا تملك من ذلك شيئاً. إنها في هوانها وحالة ضياعها أشبه بالوريقة التي تطوِّحها الريح في كل اتجاه، قبل أن تضيع في دروب الحياة فاقدة للوجهة والمصير. لأن عقلها –ذلك المصباح الفضولي –لا يقدم لها يقيناً تتمسك به. إنه في فضوله أشبه بالحيوان الذي يقترب من الأشياء يتشمّمها، ثم ينفر منها. فالشاعر يدوسه احتقاراً له ولصنيعه. ساعتئذٍ تعتريه نوستالجيا للتغني بمقطع حزين رثاء للحال.‏

وحين يستوقفه الحارس الليلي الغبي. "أنت.. من أنت؟" يتجاوز سؤاله الاسم العلم إلى الانتماء، إلى الماضي. لأنه لا يعي الحكاية كلها. فالغرفة، ذلك المجال الضيق من المكان الذي يحدد الهوية قد ضاعت، مثلما ضاعت الوريقة في الدروب من قبل. وربما يكون في إسقاط الدرب على المنهج، وإسقاط الواقع على الحارس الليلي الغبي، ما يعطي للمثقف العربي في صراعه مع الحداثة الممثلة في "المدينة" خارجياً، والتراث "الغرفة" داخلياً ما يكسب النص بعداً استعارياً يُجلِّي طبيعة الخطاب المكنون في لغته ورموزه.‏

4- التخطي والكناية:‏

يشير "مجيد عبد الحميد ناجي" (15) إلى كون الكناية من أكثر الأساليب البلاغية اختلافاً في التحديد بين البلاغيين القدامى. ويقوم باستقصاء دلالاتها عندهم مسجلاً ما يلي:‏

-أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى تاليه ورديفه في الوجود فيومئ به إليه، ويجعله دليلاً عليه. (عبد القاهر الجرجاني)‏

-أسلوب يحتمل معنيين، أحدهما قريب يدل عليه ظاهر اللفظ، وهو ما لا يقصد إليه المتكلم عادة، وآخر بعيد يؤدي إليه القريب، وهو مراد المتكلم في الغالب. ويوصل إلى هذا المعنى البعيد. (ابن الأثير)‏

-يصار إلى المعنى البعيد إما بالإرداف، وهو التعبير عن الملزم بلازمه. أو بالمجاورة، أو التعريض. (عبد القاهر)‏

-تشتمل على التعريض، والتلويح، والرمز، والإشارة، والإيماء. كما تشتمل على الإرداف، والتمثيل، وأن الجميع طرق لها. (السكاكي).‏

إننا في الكناية نتحسس وجود طبقتين للتعبير: طبقة سطحية هي ظاهر القول، وطبقة عميقة هي المراد من القول.‏

وكأننا أمام ضرب من الصياغة لا ينفي أحدها الآخر ولا ينصرف عنه، بل يبقيه على الهيئة التي هي له، على الرغم من انصرافه إلى مراد يقع وراءه. وإذا كنا قد أفلحنا في فهم حقيقة الكناية، فإننا نجد أنفسنا أمام السؤال عن السر الذي برغم المتحدث على سلوك هذا المسلك في فن القول. ولا يأتينا تعليل ذلك من خارج القول ذاته، بل لا بد له أن يتفصّد عنه، حتى يكشف حقيقة الاستعمال الكنائي فيه. لقد وجد "مجيد عبد الحميد ناجي" أن المتكلم: "بالقدر الذي نريد فيه نقل المتلقي إلى المعنى القاني البعيد الذي من أجله صاغ الصورة الكنائية، يريد أن يبقي على احتمال إرادة المعنى الأول الذي يدل عليه ظاهر اللفظ، والنسق الطبيعي لعناصر الصورة حسب واقعها العياني المرصود. ومن أجل الإبقاء على هذا الاحتمال، ولكي يكون وارداً، فإنه يسقط من الأساس القرينة التي تمنع من إرادة المعنى الظاهري من الصورة، ليبقي على احتمال إرادة كل من المعنيين." (16) فالكناية نشاط مزدوج يوظف المعنيين معاً في سياق ونسق واحد. أما أمر السياق فيرفده الواقع المعطى من حيث عناصر الصورة والمشهد. وأما النسق فمن حيث عناصر التعبير والصياغة.‏

وإذا قرأنا كناية "امرئ القيس" عن الإبكار، ألفينا حقيقة الكناية في المزاوجة المعنوية بين المستويين:‏

السطحي والعميق. وكأن الشاعر يريد أن يقول القولين معاً، وإن كان قصده ينصرف إلى حقيقة تقع وراءهما معاً. إنه يقول:‏

وقد أغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل‏

إن السياق الخارجي يقدم لنا مشهد الطير التي لا تزال في أعشاشها، تنعم بالدفء والسكينة، يسترها الليل ويغطي إغفاءتها. والطير –بعد هذا –لا يدركها نور الصبح في أكنانها. إنها الصورة الفعلية التي لا يريد الشاعر أن تذهب من وعي المتلقي، فهي عماد مشهده في الخروج إلى الصيد والإبكار له. ولها بعد ذلك أن تنصرف إلى تحديد زمن الخروج فقط. لأن القصد الذي يرمي إليه المشهد يقع وراء هذا وذاك. فالكناية هنا ليست لتحديد الزمن –فقد أدى شطر منها هذا القصد –ولكن بناءها المشهدي ينصرف إلى التعريض بالآخر الذي يصبح في دثاره وقد خرج الشاعر طالباً للأوابد. إنها تذم في الآخر تأخره، وتكاسله، وتقاعسه، عن الطراد. وترمز من طرف آخر إلى الاعتداد بنفسه والافتخار بها.‏

فإذا عدنا إلى مستويات الكناية في المشهد ألفينا في صنيعها عجباً. فهي ذات أربعة مستويات:‏

-مستوى الصورة الواقعية: الطير في وكناتها.‏

-مستوى الدلالة الزمنية: الإبكار.‏

-مستوى الدلالة التعريضية: خمول الغير، وتكاسله.‏

-مستوى الدلالة الفخرية: الاعتداد بالنفس ونشاطها.‏

-فالكناية بهذا الشأن من أقدر الأساليب الشعرية على الاقتصاد اللغوي الشعري. واختلافها عن التشبيه والاستعارة في هذا الشأن، يكسبها طواعية أكثر في استغراق دلالات المشهد الشعري واستغراق خطاباته. و"السكاكي" حين عاين فيها التلويح، والرمز، والإشارة، والإيماء، والإرداف، والتمثيل، فقد وجد فيها كافة الطاقات التعبيرية التي في مقدورها أن تزاوج، وتثلث.. بين الطرق، أو أن تتخذها جميعاً لأداء الأغراض التي يقيمها القصد وراء المشهد الكنائي.‏

ومن ثم تغدو بلاغة الكتابة المشهدية –بين التشبيه، والاستعارة، والكناية –أطوع على استغراق المشاهد التي يمدها بها الدفق الحياتي، فتتسع لها الصياغة اللغوية، إما عن طريق تشجُّرات التشبيه، وإما عن طريق التوحد والتماهي الاستعاري، وإما عن طريق تراتب المستويات في التعبير الكنائي.‏

إنه الإحساس الذي يجعلنا نوطِّد الرأي في كون البلاغة هي روح الكتابة المشهدية، وأنها ليست فضلة تنضاف إلى أصل سابق عليها للتحلية والتجميل. والقراءة التي تغفل عن حقيقة التشكيل البلاغي للصور داخل التركيب المشهدي، قراءة تفوِّت على نفسها خيراً كثيراً. كما أننا حين نقدم لفظ البلاغة على الكتابة، وننسبه إليها، نسعى إلى هدم الوهم الذي يفصل بين فعل الإنشاء، والتجميل البلاغي المزعوم، وأن ندعو إلى قراءة البلاغة بعيداً عن كونها مباحث مستقلة، تقوم قيام العلم المنفصل، المستقل بذاته، بل قراءتها وهي فاعلة في صلب النصوص، والصور، والمشاهد. وإلا فيكف يمكن أن نجد ضرورتها إن نحن عزلناها في بيت يتيم؟‏

المصادر:‏

1-الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية. مجيد عبد الحميد ناجي. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. ط1. 1404. 1984. بيروت.‏

2-شرح الحماسة. المرزوقي.. 12. (ت) أحمد أمين وعبد السلام هارون. لجنة التأليف. القاهرة (دت)‏

3-فلسفة المكان في الشعر العربي. حبيب مونسي. اتحاد الكتاب العرب. 2001. دمشق.‏

4-الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب.. جابر عصفور. المركز الثقافي العربي ط3. 1992 بيروت.‏

5-الصورة الأدبية. مصطفى ناصف. دار الأندلس ط2. 1983 بيروت.‏

6-مدينة بلا قلب. عبد المعطي حجازي. دار الكتاب العربي للطباعة والنشر. 1968 القاهرة.‏

7-مهمة الشاعر في الحياة. سيد قطب. دار الشروق. بيروت (دت).‏

(1) -أستاذ في كلية الآداب بالجزائر- سيدي بلعباس.‏

(2) -مهمة الشاعر في الحياة. سيد قطب. ص: 80 –81.‏

(3) -الأسس النفسية لأساليب البلاغية العربية. مجيد عبد الحميد ناجي. ص: 191.‏

(4) -نفس. ص: 191.‏

(5) -انظر. الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب. جابر عصفور ص: 172. 173. 174.‏

(6) -الصورة الأدبية. مصطفى ناصف. ص: 27.‏

(7) -نفس. ص: 33.‏

( -شرح الحماسة. المرزوقي. 12 ص: 85‏

(9) -انظر. الأسس النفسية للبلاغة العربية ص: 219. 220. 221.‏

(10) -الصورة الفنية.. ص: 204. 205.‏

(11) -انظر. حس فلسفة المكان في الشعر العربي، حبيب مونسي‏

(12) -الصورة الفنية.. ص: 205.‏

(13) -الصورة الأدبية، ص: 6.‏

(14) -مدينة بلا قلب. عبد المعطي حجازي ص: 175.‏

(15) -انظر. الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية ص: 227 –228.‏

(16) -الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية، ص: 220.‏




الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
بلاغة الكتابة المشهدية.نحو رؤية جديدة للبلاغة العربية ـــ د.حبيب مونسي(1)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
رنيم الحب :: القسم الادبي :: القصص القصيرة-
انتقل الى: